كانت الشمس تميل للمغيب، ترسم خيوطًا ذهبية على جدران الغرفة. جلس "أحمد" ذو العشر سنوات إلى جوار والدته "فاطمة"، وقد وضع رأسه على ركبتيها. كانت تمرر أصابعها الحنونة في خصلات شعره، بينما كان هو يحدق في انعكاس النور على زجاج النافذة. ساد صمتٌ جميلٌ لبرهة، قطعه صوت أحمد الهادئ: "أمي.. لماذا نصلي؟".
ابتسمت الأم ابتسامة دافئة، لم تفاجئها بساطة السؤال وعمقه. "سؤال رائع يا حبيبي. ألا تحب عندما تتحدث معي وتخبرني عن يومك؟"
هزّ رأسه بالإيجاب. "نعم، أحب ذلك كثيرًا".
"الصلاة هي مثل حديثنا هذا، ولكن مع الله. هي وقتنا الخاص معه، نخبره فيه عن كل شيء، عن أفراحنا، وأحلامنا، حتى عن مخاوفنا الصغيرة. الصلاة هي طريقة لنقول له: 'يا رب، أنا أحبك، وأشكرك على كل ما أعطيتني إياه'".
رفع أحمد رأسه ناظرًا في عينيها. "لكن كيف أتحدث مع شيء لا أراه؟".
أجابت الأم بهدوء: "ألا تشعر بالدفء عندما تغمرك الشمس؟ أنت لا ترى الشمس وهي تدفئك مباشرة، لكنك تشعر بأثرها. ألا تشعر بالحب عندما تراك وأنا أبتسم لك؟ الحب شعور لا نراه، لكنه يملأ قلوبنا. الله أكبر من أن نراه بعيوننا الصغيرة، لكننا نراه في كل شيء حولنا. نراه في هذه الوردة التي أضعها على الطاولة، في زقزقة العصافير في الصباح، في طعم الفاكهة الحلو، وفي قدرتنا على المشي واللعب. كل هذه الأشياء هي هدايا من الله، والصلاة هي شكرنا له على هذه الهدايا".
"هل الله يحبني يا أمي؟"
ضمت الأم ابنها إلى صدرها بحنان. "أكثر مما تتخيل. الله هو من خلقك في أحسن صورة، وهو من أعطاك قلبًا ينبض، وعقلًا يفكر، ويدين تستطيع بهما أن تبني. الله يحب كل مخلوقاته، ولكنه يحب العبد الذي يتذكره ويشكره أكثر. عندما تصلي، فأنت تخبره أنك تتذكره وتحبه أيضًا".
مرت أيام، وتجدد الحوار في أثناء تناولهما العشاء. كان أحمد يقطع تفاحته إلى نصفين وهو يسأل: "أمي، من هم الأنبياء؟ ولماذا أرسلهم الله؟".
"الأبطال الخارقون يا حبيبي، لكن ليسوا مثل أولئك الذين تراهم في الرسوم المتحركة. الأنبياء هم رجال عظماء اختارهم الله ليكونوا رسلًا، ليعلموا الناس كيف يعيشون حياةً أفضل. حياتهم كانت مليئة بالصبر والقوة والرحمة. فمثلًا، سيدنا نوح بنى سفينة ضخمة لإنقاذ الناس من الطوفان، وكان مؤمنًا بأن الله سينقذه رغم سخرية الناس منه. وسيدنا إبراهيم كان يرفض عبادة الأصنام التي يصنعها الناس بنفسهم، لأنه كان يؤمن بوجود خالق أعظم. وسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، هو خير خلق الله، جاء ليعلمنا الرحمة والأمانة والصدق، ويكمل رسالات الأنبياء من قبله. حياتهم كلها دروس لنا لنقتدي بها".
أومأ أحمد برأسه فهمًا. "إذن هم يعلموننا كيف نكون أشخاصًا صالحين؟".
"تمامًا. الإسلام ليس فقط صلاة وصيام، بل هو أيضًا أخلاق ومعاملة. هل تذكر عندما أعطيت لعبتك لصديقك الذي لم يكن يملك واحدة؟ هذا هو الإسلام. هل تذكر عندما ساعدتني في ترتيب الغرفة؟ هذا هو الإسلام. الإسلام هو أن تكون أمينًا في كلامك، وأن تحترم من هو أكبر منك، وأن تعطف على من هو أصغر منك، وأن لا تؤذي أحدًا أبدًا، وأن تحب الخير للجميع. هذه هي الأخلاق التي جاء بها الأنبياء، وهي ما يجعلنا مسلمين حقيقيين".
في ليلة من ليالي رمضان، كان أحمد يجلس مع أمه بعد الإفطار. كان يشعر بالامتنان لأن معدته ممتلئة بعد يوم طويل من الصيام. نظر إلى والدته وسألها: "أمي، لماذا نصوم؟ لقد شعرت بالعطش والجوع اليوم".
ابتسمت الأم بحنان: "الصيام هو تدريب يا حبيبي. تدريب على الصبر، وتدريب على التحكم في أنفسنا. عندما نشعر بالجوع والعطش، نتذكر الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلونه ويشربونه كل يوم. الصيام يجعلنا نشعر بهم ونحس بمعاناتهم، وهذا الشعور يدفعنا إلى مساعدتهم. لهذا، رمضان شهر الخير، يكثر فيه الناس من الصدقات والتبرعات. الصيام يطهر أجسامنا وأرواحنا، ويقربنا من الله أكثر. هو فرصة لنبدأ من جديد، ونتعلم أن نشكر الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى".
تذكر أحمد قصة كان قد قرأها مؤخرًا، فسأل: "وهل الصدقة مثل هذه، يا أمي؟ مساعدة الفقراء؟"
"نعم، يا بطل. الصدقة هي أن تعطي مما أعطاك الله للآخرين. ليست دائمًا بالمال، قد تكون بكلمة طيبة، أو ابتسامة صادقة، أو مساعدة محتاج. الصدقة هي دليل على أن قلبك مليء بالرحمة، وأنك تحب الخير للآخرين كما تحبه لنفسك. الله يحب المتصدقين، ويضاعف أجرهم، لأنهم يساهمون في جعل العالم مكانًا أفضل وأكثر عدلًا".
في يوم آخر، كانت الأم تحكي لابنها عن قصة نبي. "هناك نبي عظيم اسمه سيدنا يونس، يا أحمد. ذات يوم، ضاق به قومه، وتركهم غاضبًا دون أن يأمره الله بذلك. ركب سفينة في البحر، لكنها واجهت عاصفة قوية. فقرروا أن يلقوا بأحدهم في البحر لتنجو السفينة، ووقعت القرعة على يونس. ابتلعه حوت عظيم في قاع البحر. في ذلك الظلام، في بطن الحوت، لم يفقد يونس الأمل، بل ظل يدعو الله ويسبحه: 'لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين'. الله استجاب لدعوته وأمر الحوت أن يلفظه على الشاطئ. هذه القصة تعلمنا أن الله لا يتركنا أبدًا، حتى في أشد الأماكن ظلمة ويأسًا. ما دمنا ندعوه بصدق، فإنه يسمعنا ويستجيب لنا".
قال أحمد بتفكير: "إذن، يجب أن أدعو الله دائمًا، حتى لو كنت حزينًا أو خائفًا؟"
"بالضبط. والدعاء لا يقتصر على أوقات الصعاب، بل ندعو الله في السراء والضراء، ونشكره على نعمه. والدعاء هو من أفضل أشكال العبادة. إن الله يحب أن يسمع أصوات أحبابه".
في ليلة مقمرة، كان أحمد يستعد للنوم. كانت أمه تجلس بجواره وتقرأ له قصة. سألها بصوت يغشاه النعاس: "هل الله يسمعني الآن؟".
أجابت الأم بنبرة هادئة: "الله أقرب إليك من حبل الوريد، يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. يسمع كل ما تفكر فيه، وكل ما تخبئه في قلبك، ويسمع حتى دعواتك الصامتة. لهذا، عندما تشعر بالخوف أو الحيرة، ادعُ الله، وتحدث معه، وستجد الطمأنينة تملأ قلبك. الله لا ينسى أحبابه أبدًا".
أغمض أحمد عينيه وهو يبتسم، وقد ملأ قلبه شعور بالأمان. لم يعد الله بالنسبة له مجرد مفهوم غامض، بل قرب حبيب، ورفيق لا يغفل ولا ينام. كان يدرك الآن أن الصلاة ليست مجرد حركات، وأن الدين ليس مجرد قواعد، بل هو شعور عميق بالحب والأمان، حوار دائم لا ينقطع مع الخالق، ورحلة حياةٍ نعيشها بأخلاقٍ جميلة وروحٍ طيبة، تمامًا كما علّمته أمي الحنونة في حِجرها الدافئ.
تعليقات
إرسال تعليق